حارسة الظلال..
صورة من الحياة الفلسطينية في أرض مغتصبة
كان بيتها ملاصقا تماما للبيت الذي ولدت به، وكان لها ثلاث بنات وولدين، كنت كثيرا ما أذهب لبيتها القديم ذي الطابقين، كما كل البيوت القديمة في قريتي، حيث الطابق الأرضي كان مخصصا للحيوانات، أما الطابق الثاني فمخصص للبشر ينامون ويأكلون ويطبخون في غرفة واحدة، كانت سمراء أكثر مما اعتدنا عليه، وكانت طويلة وصوتها جهوري، لكن بيتها كان يمتاز بالنظافة.
بعد عام 1967، وحيث أن ولديها كانا يعملان في الجيش الأردني، بقيا في الأردن ولحقت بهما زوجتاهما وأبنائهما، كما تزوجت ابنتيها أيضا في الأردن، وبقيت هي وواحدة فقط من بناتها بعد أن توفي زوجها بعد 1967 بفترة بسيطة، ثم تزوجت ابنتها الأخيرة في قرية أخرى، وبهذا باتت وحيدة في بيت آيل للسقوط، وكان بيتنا الذي يشترك معه بنفس الحائط قد سقط بفعل عوامل الزمن، وتشردنا في عدة بيوت بعده، إلى أن استطعنا بناء غرفتين في طرف البلد، لم نهنأ بهما سوى اربع سنوات، قبل أن تقوم سلطات الاحتلال الاسرائيلي بهدمهما إثر اعتقالي.
الحاجة رابعة بقيت وحدها، ليس في بيتها فقط بل في الحارة جميعها، فالبيت الآخر الملاصق لبيتها كانت تسكنة امرأة أرملة مع بناتها الثلاث، لكنها خوفا من سقوطة عليهن ذهبت لتسكن في بيت أخيها الغائب، بعد أن يئست من عودته، والبيت الثالث كان بيت جدتي التي ماتت فجأة، بينما كانت ساجدة تصلي صلاة المغرب.عندما سقط سقف بيتنا القديم، ظل الطابق الأرضي سليما ولم يسقط، لذلك استمرينا لسنوات طويلة في استخدامه كمخزن ومأوى لحيواناتنا، وخاصة الأرانب التي بقيت هناك، مما كان يتطلب تفقدنا لها يوميا لإعطائها ما تيسر من الأعشاب، او لإمساك أحدها ليكون وليمتنا على العشاء، في ظل عدم وجود البدائل الأخرى من اللحوم والدجاج، الذي لم تكن تربيته منتشرة سوى الدجاج البلدي، ولم يكن يذبح منه سوى الديوك، إن كانت زائدة عن الحاجة، أما الإناث فكانت تتم رعايتهن من أجل البيض الذي كان غذاء رئيسيا للصغار والكبار لا يستغنى عنه، ومن أجل تفقيس البيض لاحقا لإكثار عدد الدجاج.بذلت جهود خارقة لاقناع الحاجة رابعة لترك بيتها قبل أن يسقط هو الآخر على رأسها، وبعد جهود جبارة انتقلت إلى بيت قريب من بيتنا الجديد، كان لأحد أشقاء زوجها الذين ذهبوا إلى الأردن ولم يعودوا.البيت كان قد بني على عجل من الباطون الأسود، ولم يكن مطليا باللون الأبيض من الداخل، كان قاتما ومحاطا بالأشجار مما يحجب عنه ضوء الشمس، ولم يكن مزودا بالكهرباء، فكان معتما ورطبا حتى في الصيف وفي عز الظهيرة.كانت وحيدة إلا من بعض الزيارات المتباعدة من ابنتها، ومن بعض الزيارات التي كانت تقوم بها إلى الأردن محملة بالهدايا الكثيرة من التين والعنب واللوز وكل ما تجود به الأرض، وفي كل مرة كانت تذهب إلى الأردن، كانت تخوض معركة مع أولادها وبناتها هناك، فهم يريدونها أن تبقى عندهم حتى لا تتبهدل، وهي تصر على العودة إلى فلسطين، وكانت في كل مرة تهرب عائدة ضاربة رغبة أبنائها ونصائحهم عرض الحائط.كانت تعيش مما تنتجه أرضها وأرض إخوة زوجها، الذين لم يطالبوها بشيء، فكانت تقطف ثمار التين والعنب والبرقوق وتذهب لبيعها، ولأنها وحيدة وعجوز كانت تتعرض دوما لغزو الأطفال الأشقياء، لكنها كانت تعمل دوريات مراقبة، ويا ويل ذلك الطفل الذي يقع بين يديها، إذا امسكت به يقطف ثمرة تين أو برقوق، كان صوتها يجلجل. أما إن أمسكت به فكان يأخذ نصيبه من الضرب والشتم هو ووالديه الذين ربياه.كبرت الحاجة رابعة، ولم تعد تقوى على الحراسة أو القطف والبيع، وباتت تحتاج للمساعدة، لكنها ظلت على موقفها الرافض للعيش مع أحد ابنائها في الأردن، متذرعة بأنها لا تستطيع ترك البيت والأشجار، فمن سيقوم بالحراسة غيرها؟أقنعها بعضهم أن ابنها مريض جداً، ولا بد لها من الذهاب إلى الأردن، فذهبت وشهدت موت ابنها هناك، ويبدو أنها فقدت رغبتها في الحياة بعده، حاولت العودة، إلا أن ابنها منعها من ذلك، بحجة أنها لن تصل إلى فلسطين وستموت في الطريق، ولا أحد من احفادها يستطيع مرافقتها، لأن لا أحد منهم يملك هوية أو يستطيع الحصول على تصريح.بقيت هناك لكن ليس لفترة طويلة، فقد ماتت بعد أسابيع قليلة من موت ابنها، ودفت هناك في الأردن، وظل البيت والشجر ينتظرها بلا جدوى، فقد غابت حارسة الظلال.