د. بثينة شعبان
للمرّة الأولى منذ أن قَدِموا إلى فلسطين لاقتلاع شعبها من أرضهم و ديارهم و المكوث مكانهم ربما يشعر المستوطنون نزراً يسيراً من بعض ما شعر به الفلسطينيون عندما أجبرهم المستوطنون على الرحيل القسري عن مزارعهم و قراهم و مدنهم و عن أرض آبائهم و أجدادهم، مستبيحين في ذلك أرواحهم و ممتلكاتهم و إرثهم التاريخي و حقوقهم الوطنية و المدنية. مع أن هؤلاء المستوطنين قدِموا إلى فلسطين من أمصار و بلدان مختلفة، و مع أنهم لم يرثوا نجومها و قمرها و سماءها و لون تربتها عن الأجداد و الجدات، و مع ذلك فقد عبّر الكثيرون منهم عن الصعوبة البالغة لمغادرة البيوت التي سكنوها و ألفوها لسنين قليلة مع أنهم يرحلون إلى مستوطنات جديدة و حياة مريحة تحت ظلّ دولتهم و ليس على يدٍ أجنبية حاقدة ترتكب ضدّهم المجازر كما فعلوا هم بالفلسطينيين في دير ياسين و كفر قاسم و غيرها من مجازر التهجير العرقي، بل تمّ ترحيلهم بعد تعويض و في غمرة تعاطف جاليات يهودية تسللت إلى بعض المستوطنات في قطاع غزة للانضمام إلى نشطاء اليمين المتطرف المتحصنين داخل هذه المستوطنات لمنع تطبيق خطة الفصل و إخلاء المستوطنات و تعاون من أجل إدخالهم ضبّاط الأمن العاملون في خدمة المستوطنات. و مع الفرق الشاسع بين انتماء الفلسطينيين لتربتهم و وطنهم الوحيد و بين تشبّث مستوطنين معبأين إيديولوجياً لتحقيق أهداف استعمارية، و مع الفرق الشاسع بين طريقة تهجير الفلسطينيين الذين تعرّضوا للمجازر الوحشية لإجبارهم على الرحيل من قراهم و مدنهم التي توارثوا العيش فيها جيلاً بعد جيل، و الذين كان الجيش الإسرائيلي يكتفي بتهديدهم عبر مكبرات الصوت أنهم ما لم يخلوا منازلهم الآن فإنها سـتـُُهدم فوق رؤوسهم. و مع الفرق الشاسع بين فلسطيني يُهدَم منزله ليصبح لاجئاً في أرضٍ دون منزل أو ديار و بين مستوطن يحمل جنسية بلده الأصلي و مع ذلك يُعوَّض بمئات الآلاف من الدولارات للتخلي عن أرضٍ فلسطينية احتلها عنوة ً و منزل بناه على أرض الآخرين. و مع ذلك فإننا يجب أن نُقارن بين ردود الأفعال العالمية على أبشع جريمة عرقية أُرتُكِبَت في القرن العشرين عندما تمّ بقوة السلاح و المجازر الدموية تهجير الفلسطينيين و هدم منازلهم و الاستيلاء على مدنهم و قراهم و مزارعهم و تغيير أسمائها و تسليمها للمستوطنين القادمين من أوروبا و بين ردود الأفعال على انتقال مستوطنين من أراضٍ محتلـّة لا حقّ لهم بالأساس بالتواجد عليها إلى أرض محتلة هي الأخرى.
و في اجتماع اثنتين و خمسين منظمة يهودية في واشنطن أقام الجميع الصلوات للمستوطنين "الذين يغادرون بيوتهم و مجتمعهم و طريقة حياتهم"، و السؤال الهام هو: هل سـتـُُدرِك هذه المنظمات بعد اليوم ما يعانيه ضحاياها من الفلسطينيين الذين أرغمتهم المنظمات المماثلة بقوّة السلاح على مغادرة بيوتهم و أرضهم و بساتين الزيتون و طريقة حياتهم ليُلقَى بهم في العراء لاجئين و من ثمّ يتم التنكـّر لحقّهم في العودة و حقّهم في أرضهم و مجتمعهم الذي سُلِخُوا عنه قسراً و قهراً؟! إذا كان القادمون من خارج فلسطين الذين عاشوا لسنين قليلة في مستعمرات بُنِيَت على الأرض الفلسطينية في غزّة قد استحقّوا هذا التعاطف في الإعلام "الحر" فماذا نقول لمن عايش بيارات البرتقال و الزيتون منذ نعومة أظفاره و ورثها عن الآباء و الأجداد و يأتي اليوم جدار فصل عنصري ليسلبَهُ المياه و الأرض و الشجر و يفصل بين أفراد الأسرة الواحدة و بين الطفل و مدرسته و الفلاح و قريته و المرأة و بستانها الذي تعشقَهُ و تعتاش منهُ؟؟ هؤلاء المستوطنون اليهود لم يكونوا هنا أبداً و عمرُ وجودهم لا يتجاوز السنين المعدودة بينما أجبَرَ المستوطنون اليهود سكان فلسطين من العرب الذين عمّروها منذ آلاف السنين على العيش في المخيمات ليبنوا دولتهم و مستوطناتها فكيف ينشغل الإعلام العالمي "الحر" بمصير بضعة آلاف مستوطن و يُقدِّم لهم مليارات الدولارات لبدء حياة جديدة بينما يتنكر العالم "المتحضّر" لحقوق الفلسطينيين الذين تمّ تهجيرهم منذ أكثر من نصف قرن من أرضهم و ديارهم؟ و الأدهى من ذلك هو أنّ كتـَّاباً مثل جيمس بينيت يكتُب في النيويورك تايمز "أن المستوطنات تُشكـِّل جزءاً من المنظر الطبيعي في غزّة و أن القيود المفروضة تُشكـِّل جزءاً من الحياة بحيث يصعب على الزائر العادي أن يتخيّل غيابها". لا يعلم جيمس بينت كم يختلف معه أصحاب الأرض الفلسطينيون الذين فُرِضَت عليهم أبشع أنواع الإهانة و المعاناة و الألم بسبب مُصادرة الاحتلال البغيض لأرضهم و كرامتهم. و الغريب أنـّه في المقال نفسه يستمع إلى الطفل محمد بشير (إثنا عشر عاماً) و الذي قال له أنـّه بعد جلاء المستوطنات يحلم أن يصعد إلى الطابق الثاني في منزله الذي احتلته قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ خمس سنوات لأنـّه يطلّ على مستعمرة كفرداروم التي سيقوم شارون بتهديم منازلها كي لا يستخدمها اللاجئون الفلسطينيون. بينما تحلم هيا بشير و عمرها أيضاً إثنا عشر عاماً أن تلعب في الحارة مع الأطفال لأنها و منذ أن احتـلَّ الإسرائيليون حارتها و وضعوا الأسلاك الشائكة و أغلقوا الطرق تلعب داخل منزلها الصغير فقط خوفاً من اصطيادها من قبل قناصة المستوطنين و الجنود الإسرائيليين كما حدث للطفل محمد الدُرَّة و غيره المئات. كلّ هذه الأحلام الصغيرة بأبسط حقوق الإنسان بالحريّة و الكرامة لم تُلامس مشاعر جيمس بينيت و بقي يتغزّل بالمستعمرات التي بُنيت على أنقاض حقوق و حريّة و كرامة الفلسطينيين و يُسمّي المحتلـّين "سكاناً طموحين حلموا أن يبقوا في غزّة للأبد" كما استمع جيمس بينيت إلى المرأة الفلسطينية مديحة أبو الندى 46 عاماً و التي احتلّ الإسرائيليون جزءاً من أرضها و أصبحت صحراء بعد أن كانت خضراء مزدهرة و حلمها هو أن تُعيد الحياة الخضراء لأرضها. لا أعلم كيف يستطيع كاتب أن يتجاهل حقوق جزء من البشر كلـّياً و هم في هذه الحالة الفلسطينيين طبعاً ليمنح الجزء الآخر "المستوطنين" حقّاً في ارضٍ ليست لهم الذين يتناقض وجودهم فيها مع كلّ الأخلاق و القيم و الشرعية الدولية. هل يعتَبِر أن هناك نوعان من البشر: نوع له الحقّ أن يعيش حيث يريد و كيفما يشاء و يتم تعويضه حتى عن أعماله العدوانية و احتلاله و نوع آخر لا حقّ له أن يعيش في أرضه و بيته و أن يصعد إلى الطابق الثاني من منزله أو أن يلعب مع الأطفال في حارته أو أن يلمس غصن زيتونة في أرضه أو أن يُقاوِم الاحتلال الذي يسلبه جوهر الحياة الإنسانية و معناها؟
كلّ هذا و الاحتلال لم يرحل: فالإسرائيليون يسيطرون على أجواء و بحر غزّة و على كلّ تحرّك فيها و يسجِّلون كلّ صوت و يحاولون إسكات كلّ صوت حرّ يُنَاهِض الاحتلال في الضفّة و يخططون لاغتصاب القُدس العربية. هؤلاء المستوطنون يهدمون الآن المنازل و يسمِّمون البيئة في المستوطنات التي تخلـّوا عنها بالمواد السامّة و يحرقون الأرض قبل أن يغادروا كي لا تنبت شجراً و لا زرعاً و كي لا يمكن شرب مياهها و كي تُصبِح الحياة الإنسانية فيها مستحيلة! أيّ حقدٍ عنصري تمّ تعبئتهم به من قِبَل مناهج التعليم الإسرائيلية و من قِبَل المنظمات المتطرّفة!! الغريب هو أن تصِف جريدة امريكية مرموقة مثل النيويورك تايمز جنود الاحتلال بأنهم "سجناء الاحتلال" و سوف "يحررهم الانسحاب" بينما تتهم من يقعون تحت قمع الاحتلال و استبداده بأنهم "معادون". هل يُعقَل أن يتفرّج العالم على 9 آلاف مستوطن و هم يدمّرون حياة مليون عربي في غزّة لعقود طويلة من القهر و الاستبداد و على مئتي ألف مستوطن قادمين من كلّ أصقاع الأرض و هم يحوّلون حياة ملايين الفلسطينيين في الضفة إلى جحيم و يجهزون على حريتهم و مقدّساتهم و أرضهم و كرامتهم و طرائق معيشتهم و مع ذلك يصف نفسه بأنه "عالم متحضِّر" ؟!! و هل يحق لنا أن نأمل أن التعاطف مع المستوطنين و الذي تغنّت به معظم وسائل الإعلام العالمية و هلـّل له عشرات الكتاب في الغرب يمكن أن يفتح القلوب و الأعين للتعاطف مع ملايين اللاجئين الفلسطينيين داخل و خارج فلسطين الذين تمّ ترحيلهم منذ أكثر من نصف قرن من مدنهم و قراهم و تُرِكوا دون حريّة و لا دولة أو تعويضات أو حتى تعاطف إنساني معهم؟
إنّ من ساهم في تهجير السكان العرب الأصليين من فلسطين و إن من قاد حملات الإبادة و المجازر و الحروب الاستعمارية البغيضة هو من أوصتهُ أمُّه كل يوم "ألا يثق بالعرب" فهل يُعقَل أن تستمد الأسرة الدولية سياستها اتجاه المنطقة من نظرة عنصرية واضحة و متجذّرة ضدّ العرب و أوطانهم و مقدساتهم؟!■
